جسد يحضن الحب ويبتعد
بقلم: ضياء قصبجي
أفلتت أنامله من يدي ,وابتعدت.... ألقيت بنظري إلى هيكله العام الخارجي, ذاك الجسد الهيكل الذي تسكن فيه روح عذبة حانية... وتتدفق من بين جنباته دقات قلب محب... أذكر ما قاله لي حين كنا نجلس تحت ظل شجرة وارفة... تكلل مقعدنا, في الحديقة العامة في حلب... وكان الطقس أميل إلى البرودة... وثمة ريح خفيفة تعصف على شكل هبات نشطة أحياناً... بطيئة أحياناً أخرى... هذا ما جعل الناس لا يتواردون إليها, ولم يكن هنالك أكثر من أشخاص معدودين, يسيرون صامتين وحالمين.
- على وريقات الشجر الأخضر... تعثرين على كلمة أحبك.
اذكر إني ابتسمت وسألته مداعبة:
- وحين تصفر الأوراق وتتساقط... أين أعثر عليها؟
اذكر انه ضحك وأجابني:
- هناك شجيرات دائمة الخضرة.
كنا كثيراً ما نلقي الطرائف, ونضحك بسعادة... ويخيل إلي إننا نتجاوب معاً أكثر من أي محبين آخرين.
ها هو ذا جسده لم يزل يخطو مبتعداً عني متجهاً نحو الأمام... لقد أصبحت أذن خلف ظهره... وقد كنت أمامه دوئماً... يتقدم مني بوجهه الحلو, وصدره الشامخ. لثوان تزاحمت أحلى صور الذكريات... ذكريات الحب... حبنا الذي أحببناه وهدهدناه... ولم يكن هناك أي عائق يحول بيننا وبين أن يحب بعضنا بعضاً.
على ظهره المبتعد,تتساقط الذكريات تباعاً.
كنا نعبر الجسر الضخم فوق النهر الصغير... في شارع من شوارع حلب اسمه العزيزية, وقال:
- لا أعرف بعد أن أتركك إلى أين سأذهب...؟
- فهل لي بأن أوصلك إلى بيتك...؟
- أخشى أن تضلي طريقك من دوني.
تشابكت أصابعنا... وتبادلنا نظرات باسمة... ثم تابعنا الطريق باسمين.
ها هو ذا الجسد الذي تسكن فيه روحه الغالية... وحبه العفيف, يبتعد عني... ممنياً أياي بالوعود... والرجوع إلي... متى سيرجع إلي ترى؟ وكيف يكون بعدئذ.؟
كنا نتناول طعام الغذاء في مكان منخفض عن مستوى الأرض اسمه (الكوخ) مكان صغير الحجم, فيه غرف صغيرة... يعتمد اعتماداً كبيراً على جمال (الديكور) وقد ألقيت إليه نظرة عامة... ففي الغرفة الأولى, المطلية بالأبيض كالأقبية القديمة, ثمة مطواة (ولمبة غاز), أما في الغرفة التي جلسنا فيها, فقد كنت أتطلع فيها إلى الفن الذي يشعر المرء بأنه في مكان شاعري ساحر.
نافذة صغيرة, يقطع زجاجها الحلبي أخشاباً بنية اللون, تنسدل عليها ستائر صغيرة تنفرج إلى اليمين وإلى الشمال, ومن خلف الزجاج تنبعث إضاءة, تذكر باشراقة الصبح... انظر كذلك إلى (المنفاخ) القديم الموضوع على حافة مرمرية تعتلي حفرة كبيرة في الجدار, في أرضها مجموعة من الفحم, من بينها يتوزع الضوء الأحمر, فيبدو كالنار... أما المنفاخ القديم فقد ذكرني بالآباء والأجداد, حيث ينفخون به النار, بطريقة إبعاد المقبضين, وامتلاء بطنه بالهواء, ثم الضغط عليها ليخرج الهواء من فمه الدقيق ويصير الفحم ناراً... كانت ناراً حقيقية آنذاك... نار تدفئ الأجسام والقلوب, أما هذا الضوء الأحمر المختبئ بين الفحمات كذلك فأنّى له أن يدفئ الجالسين حول المناضد التي يغطيها نفس قماش الستائر الزهري اللون.!
لم أكن أتصور أن حبيبي كان ينتظر أن أنتهي من بعثرة نظراتي على الأشياء... ففاجأني بقوله:
- من سوء حظي أن الزخرفة جميلة...؟
- ولماذا؟
- لقد سرقت نظراتك... ألا تلاحظين أنك منذ عشر دقائق وحتى الآن لا تنظرين إلا إلى الأشياء... وعظمة المكان.
- وأي شيء في هذا.؟
- عليك أن تدركي ما أعني دون هذا السؤال.
- لعلي لست بالذكاء الذي تتصوره.
- بل أن هذا ضرب من اللامبالاة والتجاهل.
- وهل تغار من الأشياء.؟
- لا تقيسي الأمور بمقياس الغيرة... فغير المعقول أن أغار من الأشياء.
- ممن تغار أذن.؟
- من ذاك الذي يجلس تحت النافذة التي تنظرين إليها... وكأنها معبد من معابد أثينا... وينظر أليك.
ضحكت من الأعماق... أحببت غيرته هذه... ثم لاحت إلتفاتة مني إلى ذاك الذي يجلس تحت النافذة الصغيرة... فألفيته ينظر إلي ثم يبتسم محيياً محنيا رأسه وذكرت أني أعرفه... فما هو إلا زميلي في جامعة حلب, قلت له:
- أنه جميل ألا تراه يستحق النظر.؟
لم يحتمل هذه المفاجأة التي اعتبرها تحدياً له... فغضب مني, ثم آلمني كثيراً, حين هبّ واقفاً, ثم دفع الحساب وتركني على المنضدة وحدي, وانصرف.
آه مازلت متسمرة مكاني... أرقب شبح جسده الذي بدأ يتلاشى... هذا الجسد الذي طالما كان قريباً مني, يحضن الحب والانفعالات والغيرة.
حتى آثار أنامله قد ضمت إلى واحة الذكريات التي تساقطت تباعاً على ظهره المبتعد.
لقد غاب عن نظري أخيراً... دون أن يقول لي... متى سيعود.؟